سورة الكهف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً} قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال في آية أخرى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا}. وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر {ويوم تسير} بتاء مضمومة وفتح الياء. و{الْجِبالَ} رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {ويوم تسير الجبال} بفتح التاء مخففا من سار. {الجبال} رفعا. دليل قراءة أبى عمرو {وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ}. ودليل قراءة ابن محيصن {وتسير الجبال سيرا}. واختار أبو عبيد القراءة الأولى {نُسَيِّرُ} بالنون لقوله: {وَحَشَرْناهُمْ}. ومعنى {بارِزَةً} ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها، فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير.
وقيل: {وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً} أي برز ما فيها من الكنوز والأموات، كما قال: {وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} وقال: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها} وهذا قول عطاء. {وَحَشَرْناهُمْ} أي إلى الموقف. {فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي لم نترك، يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة:
غادرته متعفرا أوصاله *** والقوم بين مجرح ومجدل
أي تركته. والمغادرة الترك، ومنه الغدر، لأنه ترل الوفاء. وإنما سمى الغدير من الماء غديرا لان الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.


{وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)}
قوله تعالى: {عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا} {صفًّا} نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا، لا أنهم صف واحد.
وقيل: جميعا، كقوله: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي جميعا. وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادى يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب». قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله.
{قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا. وقيل فرادى، دليله قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وقد تقدم.
وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم. {بلْ زَعَمْتُمْ} هذا خطاب لمنكري البعث، أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفى صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة، الأملا أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض». «غرلا» أي غير مختونين. وقد تقدم في الأنعام بيانه.


{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ} {الْكِتابُ} اسم جنس، وفية وجهان: أحدهما- أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل.
الثاني- أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر، ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم- شك نعيم- عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بنى أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب! حدثنا من حديث الآخرة، قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله- قال- ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها} قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك، إلا أحصاها- قال كعب، ثم يدعى المؤمن فيعطى. كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة، فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول: {هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوى عنقه، فذلك قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه! ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، يعني ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل، ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك. قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في النساء بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء، وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى. {أَحْصاها} عدها وأحاط بها، وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا. {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً} أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا.
وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله، قال الضحاك.
وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15